إن إهمال اللغة العربية ليس بالأمر الجديد. فهو موضوع تتداوله الصحف والمواقع الإلكترونية خلال العقدين الأخيرين وأكثر، ولكن المشكلة الحقيقة التي نواجهها في وطننا العربي أن الجميع يتحدث عن أهمية اللغة العربية وضرورة الاهتمام بها، وفي الوقت ذاته تجد أجيالًا وراء أجيال تتوارث إهمال اللغة وإلحاق الأطفال بالمدارس الدولية الغربية، وتشجيع المجتمع على دعم الإهمال المتعمد من المدارس الدولية لأهمية اللغة العربية.
لن أقول إن في هذا خطة ممنهجة للحط من شأن اللغة العربية، ولكن الحديث عن إهمال اللغة العربية لا يجب أن يقف عند حد "الحديث" بل لا بد لنا من وقفة ندرس من خلالها الخطوات الفعلية التي يتم اتخاذها لتحظى العربية بالمكانة التي تليق بها. لا بد أن نبحث عن الأصوات التي تسعى لوضع حلول لهذا الاتجاه. لا بد أن ننتبه إلى الأسباب التي تدعم استمرار هذا التجاهل المتعمد!
في سياق بحثي عن أساليب جديدة لتعليم اللغة العربية للأطفال بطريقة لا تقل تطورًا ومتعة عن تعليم اللغات الأخرى، فوجئت في حواري مع أحد أصدقائي المعلمين أنه من الشائع أن يحظى معلم اللغة العربية براتب أقل من راتب المعلمين الآخري. كان هذا المعلم يعمل في إحدى المدارس الدولية المرموقة، وفوجئت بهذه المعلومة الغريبة من خلال حديثي معه عن بحثي. وحينها راودتني العديد من التساؤلات، لماذا يا ترى يحصل معلم اللغة العربية عن راتب أقل من معلم الرياضيات أو معلم اللغة الإنجليزية أو الفرنسية وغيرها؟ وما المغزى من وراء هذه التفرقة؟ ولماذا قد يعمل اثنان من المعلمين في المدرسة نفسها، يعملون الطلاب نفسهم، ويحصل كل منهما على راتب مختلف.
سألت زميلي حينها، هل إدارة المدرسة مصرية أم أجنبية؟ وهل هذا الأمر متعارف عليه في المدارس الدولية بشكل عام؟ صدمت من الإجابة، حيث إن إدارة المدرسة مصرية بالكامل، بل وأن هذا الأمر قانون شائع في أغلب المدارس الدولية في مصر والشرق الأوسط.
نجوم مضيئة في ظل أزمة كبيرة
وعلى الرغم من أن الصورة تبدو في العموم مظلمة، إلا أن هناك بعض النجوم المضيئة في عالمنا التي قررت أن تقف وقفة شجاعة ضد التيار لتثبت أن تعليم العربية يمكن أن يكون أكثر تطورًا. وأن اللغة العربية ليست لغة جامدة، بل إنها لغة مرنة يمكن أن تتقبل استخدام أساليب التدريس الحديثة مثل الاتجاه الإلكتروني كتعليم العربية باستخدام الألعاب التفاعلية، وتدريس العريية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتدريس العربية عن طريق الألعاب اللوحية وقصص الأطفال وغيرها.
على رأس هذه المواقع يأتي موقع توينكل التعليمي، ففي الآونة الأخيرة برزت على الساعة جهود الموقع في تطوير برامج دولية لتعليم اللغة العربية بداية من مرحلة رياض الأطفال ووصولًا إلى المرحلة الثانوية. ومؤخرًا عرض الموقع أحدث إصداراته حيث تعليم اللغة العربية باستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو الأمر الذي تفرد به الموقع وجذب العديد من المعلمين من كل بلاد العالم.
وهناك موقع آخر يسعى لتطوير نفسه بشكل دائم في مجال تعليم اللغة العربية هو موقع أقرأ بالعربية، يسعى الموقع إلى تشجيع الطلاب على القراءة بالعربية وتقييم مستوى قراءتهم بالعربية. تصميم الموقع جذاب وبسيط مما يجعله سهل الاستخدام من قبل الأطفال مباشرة.
وهناك موقع عصافير الذي ذاع صوته كثيرًا في السنوات الأخيرة كموقع مخصص لقصص الأطفال العربية المسجلة صوتيًا. وعن كل قصة يوفر الموقع عدة أنشطة وتدريبات باللغة العربية لتعزيز استعاب الطفل للغة المسموعة.
تجارب حقيقة لتأثير إهمال العربية على ضياع الهوية
في خلال العقدي الآخيرين، تم ربط استخدام اللغة العربية بالمستوى الاجتماعي الأقل في المستوى بشكل متعمد في مختلف وسائل الإعلام. فنلاحظ في أكثر من مسلسل وفيلم عربي أن الموظف البسيط يتحدث العربية بطلاقة، بينما صاحب الشركة الذي يعيش في فيلا فارهة يتحدث العربية التي تتخللها الإنجليزية، بل إن أبناءه لا يتحدون العربية مطلقًَا، ومع تكرار هذا النموذج المختل في أكثر من عمل تلفزيوني وسينمائي رسخت في ذاكرة الجماهير العربية أن إتقان الإنجليزية وإهمال العربي يعد نمرذجًا للرقى والرفاهية الاجتماعية، بينما إتقان العربية يجبر الشخص على النزول على الدرج لمرحلة أقل في المستوى الاجتماعي. على رأس هذه الأعمال ربما فيلم ثم مسلسل رمضان مبروك أبو العلمين حمودة بطولة محمد هنيدي، فالعمل كوميدي ولكنه يتضمن ملامح خفية من السخرية من معلم العربية الرجعي الذي يعتمد طرق تدريسية عفا عليها الزمن.
ولعل من سخرية القدر أن تروي إحدى الأمهات عن مأساتها مع طفلها الذي جاء ذات نهار من المدرسة يكرر كلمة Oh Jesus التي سمعها من أحد زملائه. فقررت الأم أن تنببه أن هذه الكلمة لا يمكن له استخدامه كمسلم. فاعترض الطفل كثيرًا ولمح لها بأن هذا هو المتعارف عليه وأنه يواكب العصر (!).
ومن المثير للجدل، هو كيف أن العرب في الخارج لم يفقدوا هويتهم كالعرب في الداخل، بمعنى أن الأسر العربية التي تعيش في مجتمعات غربية، ربما بسبب إحساسها بخطر التأثر بالثقافة الغربية، تجد منهم حرصً على تعليم أطفالهم اللغة العربية باستمرار في المدارس المخصص لذلك في عطلة نهاية الأسبوع، أما الأسر العربية، التي ربما لم يصلها بعد الإحساس بالخطر، فيهملون في تعليم أطفالهم العربية عمدًا بحجة أنها "ليست لغة العصر" وأنها لا تؤثر على فرصة الطفل في سوق العمل لاحقًا.